سوريا بعد الأسد- بين قلق البدايات وتحديات المستقبل

في أعقاب الأحداث السورية، التي أيقظت فينا ذكريات الربيع العربي وتحدياته، تتجدد آمالنا في مستقبل أفضل، مدفوعين بتجارب الماضي التي أكدت أن المستقبل يحمل في طياته تحديات جمة. لقد جاءت هذه الأحداث بشكل غير متوقع، لتثير موجة من التساؤلات العميقة داخل سوريا وخارجها على حد سواء.
هذه التساؤلات لا تقتصر على مجرد استعراض تفاصيل وملابسات الأحداث، بل تتعداها لتشمل قضايا الحاضر وتطلعات المستقبل. فمن الطبيعي أن يتراجع الخوف، الذي طالما سيطر على الماضي، ليحل محله القلق، الذي بات سمة من سمات المستقبل القريب على الأقل.
*
منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال الذي هز أركان البلاد، تدفقت علينا أسئلة ملحة حول الخلفيات والأهداف التي تقف وراء القيادة السورية الجديدة. لذا، رأيت أنه من الأنسب التروي ومراقبة الأوضاع عن كثب، مع تجنب إصدار الأحكام المتسرعة قبل أن تتضح الصورة كاملة بشأن عملية الإطاحة بنظام بشار الأسد.
وانطلاقًا من حرصي على المتابعة الدقيقة، لاحظت أن الخطاب الذي ألقاه القائد العام للإدارة الجديدة، أحمد الشرع، اتسم بالترتيب والتصالح مع جميع الأطراف، وبالاعتدال في كلماته ومظهره. وهذا ما يتعارض مع اللحى الكثيفة التي كانت تحيط به، والملابس التقليدية التي غابت عن الحاضرين، بالإضافة إلى العمائم التي اعتدنا رؤيتها على رؤوس المجاهدين من زملائه. وهو الأمر الذي عزز لدي قناعة بأنهم ينتمون إلى فئة واحدة، حتى وإن كانت الصورة الظاهرية تبعث على الاطمئنان.
كما لفت انتباهي وجود العلم السوري في زاوية المجلس، وإلى جانبه علم هيئة تحرير الشام التي يمثلها. ولكن، نظرًا لتأثري بصور الخارجين من سجن صيدنايا، لم أستسغ ظهور علم الهيئة المذكورة، واعتبرته خطأً في الإخراج، خاصة وأن الرجل كان يتحدث بصفته متحدثًا باسم الثورة السورية، وليس بصفته رئيسًا للفصيل الذي يقوده.
وبدافع حسن الظن، تجاهلت هذا الأمر في البداية، لكن سرعان ما عدت إليه بعد أيام قليلة، عندما لاحظت أن الظهور على الشاشات اقتصر على الشرع وبعض رفاقه. عندها، تأكدت أننا لا نرى سوى الفريق ذاته، بينما الشعب السوري غائب إلا من الصور التي تظهره خارجًا من السجون أو محتفلاً في الميادين.
لقد بذلت جهودًا مضنية لاستبعاد فكرة استبدال نظام الأسد بنظام آخر لا يختلف عنه سوى في الاسم والشكل. لقد قاومت هذه الفكرة بشدة، لأنني أؤمن بأن الشعب السوري هو الذي حقق النصر الحقيقي، وليس هيئة تحرير الشام التي هي جزء منه، ولا يمكن اعتبارها ممثلة له بأكمله. وهذا يعني أن الهيئة قد حققت بعض الإنجازات، وفرضت نفسها بحكم الأمر الواقع المؤقت، وليس بانتخاب الشعب لها.
خشيت أن أكون قد تسرعت في إصدار الأحكام، وتأثرت في ذلك بالصورة النمطية التي روجتها وسائل الإعلام عن المجاهدين في أفغانستان، والقاعدة وتنظيم الدولة في بلاد الشام.
كما أن انطباعي الأولي تأثر بالصورة المنشورة للشرع مع مساعديه وبعض ضيوفه، قبل أن ينبهني أحد الأصدقاء المقربين إلى أن الرجل قد أجرى لقاءات أخرى عديدة تم تصويرها ولم تنشر.
وأوضح الصديق أن الشرع، خلال فترة وجوده في إدلب، حيث شكل حكومة انتقالية مؤقتة، لم يتوقف عن التواصل مع مختلف ممثلي المجتمع السوري. وهو يتبع النهج البراغماتي نفسه لطمأنة جميع الأطراف منذ وصوله إلى دمشق، بهدف التمهيد لعقد مؤتمر الحوار الوطني الذي أشار إليه في بعض لقاءاته، وإن لم يتم تحديد موعده بعد.
*
لو حذفنا اسم سوريا من هذا المقال، لوجدنا نماذج متشابهة أخرى جاهزة لشغل الفراغ، ولن يختفي سوى اسم الكاتب.
ولأن الجراح أعمق من أن تلتئم بالكلمات المعسولة والمظاهر الخادعة، فإن ما قدمه الشرع لم يكن كافيًا لتبديد القلق وإزالة الخوف المتجذر في المجتمع السوري، الذي يتميز بتركيبته السكانية التي يصعب فيها تحقيق التوافق الأهلي، خاصة بعد أن مزق الاستبداد أواصره، وبث الفرقة بين مكوناته.
صحيح أن بعض كتب التراث ذكرت "الطاعة الشامية" التي روج لها بعض علماء الشيعة الذين أرادوا النيل من الأمويين بعد مقتل الإمام الحسين في كربلاء، إلا أن تاريخ التمرد في عهد الأسد حافل بالانتفاضات الشعبية في مختلف المحافظات.
ورغم مظاهر الفرح التي عمت أرجاء البلاد بعد سقوط النظام، فإن ذلك لم يمنع التعبير عن القلق، وهو ما تجلى في بيان أصدره بعض رجال الدين المسيحيين السوريين، ذكّروا فيه النظام الجديد، وربما بمناسبة الحديث عن كتابة دستور جديد، بحقوقهم وحضورهم كطائفة ومواطنين. كما أصدر العلويون بيانًا آخر عبروا فيه عن قلقهم إزاء ما أصابهم جراء انتساب الأسد إليهم. بالإضافة إلى ذلك، خرجت مظاهرة في دمشق تطالب بعلمانية الدولة الجديدة.
وما حدث حتى الآن ليس سوى مقدمات للحراك المرتقب في الساحة السورية، حيث من المتوقع أن تتغير الصورة تدريجيًا بعد عودة النازحين والمهاجرين الذين غادروا البلاد طواعية أو قسرًا خلال السنوات الماضية. ونظرًا لأن عددهم يقدر بتسعة ملايين نسمة، فإن إضافة أعدادهم إلى الموجودين، وهم يحملون معهم آمالهم وثاراتهم وخبراتهم، خاصة في الدول الديمقراطية، قد يغير من ملامح المشهد بشكل كبير.
وعندما يستعيد الوطن أبناءه، تتضح معالم وجهه بشكل أكبر، حيث نرى فيه حجم التنوع الفريد في مكوناته. فالشام واحد حقًا، لكن الشوام ليسوا كذلك. فالأغلبية من المسلمين السنة، واللغة الرسمية هي العربية، وإن كان البعض يحتفظ باللغة الكردية، والبعض الآخر بالآرامية. كما يوجد تنوع كبير في الأعراق والإثنيات، بالإضافة إلى اختلاف الملل والمذاهب، حيث يتوزعون بين الأكراد والعلويين والشيعة والسريان الآشوريين والشركس والأرناؤوط والدروز الإسماعيليين.
وتتوازى هذه الاختلافات العرقية والدينية مع تعدد الانتماءات الفكرية والسياسية. فمن بينهم معتدلون ودراويش ومتطرفون ومتصوفون ومؤمنون وملحدون وشيوعيون. والاتجاه الإسلامي قوي وله حضوره التاريخي بين الجماهير، كما أن الاتجاه العلماني قوي أيضًا، وأنصاره أكثر حضورًا بين المثقفين، ومنهم من يعتبر الإسلاميين أعداء لهم.
هذا التعدد والتنوع لا يقتصر على المكونات السكانية المختلفة، بل يمتد ليشمل بعض التجمعات الأهلية نفسها. فعلى سبيل المثال، فإن تحالف الفصائل التي شاركت في إسقاط النظام يضم حوالي 20 مجموعة تنتمي إلى ما يسمى بالإسلام الجهادي. وهؤلاء يختلفون مع زملائهم الذين ينتمون إلى جماعات تُنسب إلى الإسلام السياسي، أو نظيرهم الدعوي الذي لا شأن له بالسياسة، ولا أعرف لهم عددًا.
*
لا يخفى على أحد حجم التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، الذي حول الدولة إلى فقاعة فارغة تلاشت وتبخرت في غضون أيام معدودة. وما فعله النظام الجديد حتى الآن هو أنه أطلق سراح الآلاف الذين اكتظت بهم السجون، ولا يزال يسعى لتحرير المجتمع من الخوف والقهر والفقر.
وهذه المهمة أشبه ما تكون برحلة الألف ميل، المليئة بالتحديات الكامنة داخل البلاد وخارجها. وتعتبر حلقاتها الأولى المحلية هي الأصعب، لأسباب سبق ذكر بعضها. ورغم أن البلاد غنية بكفاءاتها في مختلف المجالات، فإن تحقيق التوافق الوطني يحتاج إلى جهد ووقت كبيرين، بسبب الخلافات العميقة بين مكونات المجتمع التي عززتها سياسات النظام الاستبدادي السابق.
ولأن الحشد الوطني مطلوب بشدة في هذه المرحلة التي يسعى فيها المجتمع إلى بناء نظام جديد، فإن هذه المهمة كانت أثقل من أن تضطلع بها حكومة "الإنقاذ" التي شكلتها هيئة تحرير الشام من عناصرها في إدلب.
أعلم أن الشرع يبذل قصارى جهده لطمأنة الجميع، سواء من خلال خطابه وأدائه التوافقي، أو من خلال التأكيد على طي صفحة الماضي، أو التنبيه إلى اختلاف فريقه عن الجماعات والمليشيات الأخرى الموجودة في الساحة. لذلك، يظل التعليق الذي ورد على ألسنة العديد من المراقبين المنصفين مهمًا ومحقًا، حيث اختزلوه في جملة واحدة: العبرة بالأفعال لا بالأقوال. وفي هذا الصدد، أود أن أسجل ملاحظتين: الأولى تتعلق بالأصداء الداخلية، والثانية تتعلق بنظيرتها الخارجية.
الملاحظة الأولى:
في هذه الملاحظة، أعتذر عن التعليق على الأصداء الداخلية، لأن سوريا الحقيقية في وجداننا هي لكل العرب. ومن هذا المنطلق، أسمح لنفسي بالقول إن الخلاف المثار حول هوية الدولة، وما إذا كانت ستكون إسلامية أو علمانية، يعتبر ترفًا لا يجوز الاختلاف حوله في الوقت الراهن، لأسباب عديدة، أهمها أنه يفترض أن تكون هناك أولاً دولة حقيقية يمكن الاختلاف حول تفاصيلها. والدولة الحقيقية، كما أفهمها، هي تلك التي تقوم على العدالة والحرية.
أما سوريا القائمة حاليًا فهي أشبه بدولة ناقصة، أو مجرد ضيعة صغيرة، تحتاج إلى جهد شاق وعمل دؤوب تتضافر فيه كل القوى لإعادة البناء، وترسيخ العدل، وإشاعة أجواء الحرية والكرامة لجميع المواطنين، من خلال مؤسسات ينتخبها المجتمع، وليس من خلال موالين تنتقيهم السلطة، وخطب وهتافات ترددها وسائل الإعلام.
لسنا بحاجة إلى استعادة الجرائم التي ارتكبت حولنا باسم أنبل الشعارات وأعذب الكلمات. للتذكير، فإن نظام الأسد كان "علمانيًا" متطرفًا، كما أن تجاوزات تنظيم الدولة تمت باسم الخلافة الإسلامية.
الملاحظة الثانية:
تتعلق هذه الملاحظة برسائل الوفود الغربية التي هرعت إلى دمشق مؤخرًا، والنصائح التي قدمتها، وهي تسعى لتحقيق مصالحها. والقاسم المشترك بينها هو أنها سعت إلى تغريب النظام الجديد، باعتبار أن النموذج الغربي هو المثل الأعلى الذي يجب الاحتذاء به. حتى إن مراسل الإذاعة البريطانية حرص على الاطمئنان على موقفهم إزاء الكحوليات وحجاب المرأة، بعد الحديث عن الأقليات التي تعيش هناك منذ قرون.
هؤلاء الناصحون قدموا من بلدان التزمت أنظمتها بالصمت المريب (أو التواطؤ) إزاء الإبادة الإسرائيلية والمقابر الجماعية والتجويع، ونهش الكلاب الضالة لجثث الفلسطينيين الملقاة على الجانب الآخر من الحدود في غزة.
إن الغمة السورية التي أسعدنا انقشاعها ليست استثناءً نادرًا في عالمنا العربي، بل هي حالة قصوى لنماذج مماثلة أخرى متناثرة حولنا. قد تختلف فيها الدرجة، لكنها من نفس النوع. لذلك، إذا حذفنا اسم سوريا من هذا المقال، لوجدنا نماذج متشابهة أخرى جاهزة لشغل الفراغ، ولن يختفي سوى اسم الكاتب.